فصل: تفسير الآية رقم (58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (53):

{وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
{وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان} يعني التوراة الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وحجة تفرق بين الحق والباطل. وقيل أراد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى، أو بين الكفر والإِيمان. وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى: {يَوْمَ الفرقان} يريد به يوم بدر.
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ} فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براءٍ من التفاوت، ومميزاً بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة، وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل التقصي كقولهم: بريء المريض من مرضه والمديون من دينه، أو الإنشاء كقولهم: برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا.
{فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} إتماماً لتوبتكم بالبخع، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها. وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً. وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة. روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشفت السحابة ونزلت التوبة، وكانت القتلى سبعين ألفاً. والفاء الأولى للتسبب، والثانية للتعقيب.
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} من حيث إنه طهرة من الشرك، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره: إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم، أو عطف على محذوف إن جعلته خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات، كأنه قال: ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم. وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب.
{إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} للذي يكثر توفيق التوبة، أو قبولها من المذنبين، ويبالغ في الإنعام عليهم.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}
{وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} أي لأجل قولك، أو لن نقر لك.
{حتى نَرَى الله جَهْرَةً} عياناً وهي في الأصل مصدر قولك: جهرت بالقراءة، استعيرت للمعاينة، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية، أو الحال من الفاعل، أو المفعول. وقرئ جهرة بالفتح على أنها مصدر كالغلبة، أو جمع جاهر كالكتبة فيكون حالاً من الفاعِل قطعاً، والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام للميقات. وقيل عشرة آلاف من قومه. والمؤمن به: إن الله الذي أعطاك التوراة وكلمك، أو إنك نبي.
{فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} لفرط العناد والنعت وطلب المستحيل، فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي، وهي محال، بل الممكن أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية، وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا. قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم. وقيل صيحة. وقيل جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة.
{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ما أصابكم بنفسه أو أثره.

.تفسير الآية رقم (56):

{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}
{ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} بسبب الصاعقة، وقيد للبعث لأنه قد يكون عن إغماء، أو نوم كقوله تعالى: {ثُمَّ بعثناهم} {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمة البعث، أو ما كفرتموه لما رأيتم بأس الله بالصاعقة.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه.
{وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} الترنجبين والسماني. قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع، وتبعث الجنوب عليهم السماني، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى.
{كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} على إرادة القول.
{وَمَا ظَلَمُونَا} فيه اختصار، وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا.
{ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
{وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية} يعني بيتَ المقدس، وقيل أريحا أمروا به بعد التيه.
{فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} واسعاً، ونصبه على المصدر، أو الحال من الواو.
{وادخلوا الباب} أي باب القرية، أو القبة التي كانوا يصلون إليها، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام.
{سُجَّدًا} متطامنين مخبتين، أو ساجدين لله شكراً على إخراجهم من التيه.
{وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي مسألتنا، أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة، وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة، أو على أنه مفعول {قُولُواْ} أي قولوا هذه الكلمة. وقيل معناه أمرنا حطة أي: أن نحط في هذه القرية ونقيم بها.
{نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم} بسجودكم ودعائكم. وقرأ نافع بالياء وابن عامر بالتاء على البناء للمفعول. وخطايا أصله خطايئ كخطايع، فعند سيبويه أنه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف، واجتمعت همزتان فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفاً، وكانت الهمزة بين الألفين فأبدلت ياء. وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر.
{وَسَنَزِيدُ المحسنين} ثواباً، جعل الامتثال توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسن، وأخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاماً بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله، فكيف إذا فعله، وأنه تعالى يفعل لا محالة.

.تفسير الآية رقم (59):

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}
{فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} بدلوا بما أمروا به من التوبة والاستغفار بطلب ما يشتهون من أعراض الدنيا.
{فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ} كرره مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعارًا بأن الإنزال عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه، أو على أنفسهم بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها.
{رِجْزًا مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} عذاباً مقدراً من السماء بسبب فسقهم، والرجز في الأصل: ما يعاف عنه، وكذلك الرجس. وقرئ بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعون. روي أنه مات في ساعة أربعة وعشرون ألفاً.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} لما عطشوا في التيه.
{فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر} اللام فيه للعهد على ما روي أنه كان حجراً طورياً حمله معه، وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، تسيل كل عين في جدول إلى سبط، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً، أو حجراً أهبطه آدم من الجنة، ووقع إلى شعيب عليه السلام فأعطاه لموسى مع العصا، أو الحجر الذي فر بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله به عما رموه به من الأدرة، فأشار إليه جبريل عليه السلام بحمله، أو للجنس وهذا أظهر في الحجة. قيل لم يأمره بأن يضرب حجراً بعينه، ولكن لما قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها؟ حمل حجراً في مخلاته، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر، ويضربه بها إذا ارتحل فييبس، فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً، فأوحى الله إليه لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون. وقيل كان الحجر من رخام وكان ذراعاً في ذراع، والعصا عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة.
{فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} متعلق بمحذوف تقديره: فإن ضربت فقد انفجرت، أو فضرب فانفجرت، كما مر في قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وقرئ عَشَرة بكسر الشين وفتحها وهما لغتان فيه.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط. {مَّشْرَبَهُمْ} عينهم التي يشربون منها. {كُلُواْ واشربوا} على تقدير القول: {مِن رّزْقِ الله} يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى وماء العيون. وقيل الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت به. {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} لا تعتدوا حال إفسادكم، وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمن صلاحاً راجحاً كقتل الخضر عليه السلام الغلام وخرقه السفينة، ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حساً، ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه، فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد، لم يمتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض، أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
{وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} يريدون به ما رزقوا في التيه من المن والسلوى. وبوحدته أنه لا يختلف ولا يتبدل، كقولهم: طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا تتغير ألوانه وبذلك أجمعوا أو ضرب واحد، لأنهما طعام أهل التلذذ وهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم واشتهوا ما ألفوه. {فادع لَنَا رَبَّكَ} سله لنا بدعائك إياه {يُخْرِجْ لَنَا} يظهر ويوجد، وجزمه بأنه جواب فادع فإن دعوته سبب الإجابة. {مِمَّا تُنبِتُ الأرض} من الإِسناد المجازي، وإقامة القابل مقام الفاعل، ومن للتبعيض. {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} تفسير وبيان وقع موقع الحال، وقيل بدل بإعادة الجار. والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايبه التي تؤكل، والفوم الحنطة ويقال للخبز ومنه فوموا لنا، وقيل الثوم وقرئ قُثَّائها بالضم، وهو لغة فيه. {قَالَ} أي الله، أو موسى عليه السلام. {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى} أقرب منزلة وأدون قدراً. وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة، فقيل بعيد المحل بعيد الهمة، وقرئ: {أدنأ} من الدناءة. {بالذي هُوَ خَيْرٌ} يريد به المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي. {اهبطوا مِصْرًا} انحدروا إليه من التيه، يقال هبط الوادي إذا نزل به، وهبط منه إذا خرج منه، وقرئ بالضم والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين، وقيل أراد به العلم، وإنما صرفه لسكون وسطه أو على تأويل البلد، ويؤيده أنه غير منون في مصحف ابن مسعود. وقيل أصله مصراتم فعرب. {فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} أحيطت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصقت بهم، من ضرب الطين على الحائط، مجازاة لهم على كفران النعمة. واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين، إما على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم. {وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} رجعوا به، أو صاروا أحقاء بغضبه، من باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به، وأصل البوء المساواة. {ذلك} إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب. {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيرِ الحق} بسبب كفرهم بالمعجزات، التي من جملتها ما عد عليهم من فلق البحر، وإظلال الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر. أو بالكتب المنزلة: كالإنجيل، والفرقان، وآية الرجم والتي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، وقتلهم الأنبياء فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق عندهم، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم، وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه بقوله: {ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي: جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات، وقتل النبيين.
فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها. وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر، والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى. وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل، والباء بمعنى مع وإنما جوزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعداً على تأويل ما ذكر، أو تقدم للإختصار، ونظيره في الضمير قول رؤبة يصف بقرة:
فِيها خُطُوطٌ مِنْ سَوادٍ وَبَلَق ** كأنهُ في الْجِلِد تَوْلِيعُ البَهقْ

والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة، ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع.